سورة النساء - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والاقربون} شروعٌ في بيان أحكامِ المواريثِ بعد بيانِ أحكامِ أموالِ اليتامى المنتقلةِ إليهم بالإرث، والمرادُ بالأقربين المتوارثون منهم، ومِنْ في مما متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لنصيبٌ أي لهم نصيبٌ كائنٌ مما ترَك، وقد جُوِّز تعلُّقها بنصيب {وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والاقربون} إيرادُ حكمِهن على الاستقلال دون الدرْجِ في تضاعيف أحكامِهم بأن يقالَ للرجال والنساءِ الخ، للاعتناء بأمرهن والإيذانِ بأصالتهن في استحقاق الإرثِ والإشارةِ من أول الأمرِ إلى تفاوت ما بين نصيبَي الفريقين والمبالغةِ في إبطال حكمِ الجاهليةِ فإنهم لم يكونوا يُورِّثون النساءَ والأطفالَ ويقولون: إنما يرث مَنْ يحارِبُ ويذُبُّ عن الحَوْزة.
روي أن أوسَ بنَ ثابت الأنصاريَّ خلّف زوجتَه أمَّ كجة وثلاثَ بناتٍ فزوى أبناءُ عمِّه سويدٌ وعرفطةُ أو قتادةُ وعَرْفجةُ ميراثَه عنهن على سنة الجاهلية فجاءت أمُّ كجةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه فقال: «ارجِعي حتى أنظُر ما يُحدِثه الله تعالى» فنزلت، فأرسل إليهما إن الله قد جعل لهن نصيباً ولم يبيِّنْ فلا تُفرِّقا من مال أوسٍ شيئاً حتى يبين فنزل يوصيكم الله الخ، فأعطى أمَّ كجةَ الثمنَ والبناتِ الثلثين والباقي لابني العمِّ وهو دليلٌ على جواز تأخيرِ البيانِ عن الخطاب، وقولُه تعالى: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} بدلٌ من {مَا} الأخيرةِ بإعادة الجارِّ وإليها يعود الضميرُ المجرورُ، وهذا البدلُ مرادٌ في الجملة الأولى أيضاً محذوفٌ للتعويل على المذكور، وفائدتُه دفعُ توهُّمِ تخصيصِ بعضِ الأموالِ ببعض الورثةِ كالخيل وآلاتِ الحربِ للرجال، وتحقيقُ أن لكلَ من الفريقين حقاً من كل ما جلّ ودقّ {نَصِيباً مَّفْرُوضاً} نُصب على أنه مصدرٌ مؤكّدٌ كقوله تعالى: {فَرِيضَةً مّنَ الله} كأنه قيل: قسمةً مفروضةً أو على الحالية إذ المعنى ثبَت لهم نصيبٌ كائنٌ مما ترك الوالدان والأقربون حالَ كونِه مفروضاً، أو على الاختصاص أي أعني نصيباً مقطوعاً مفروضاً واجباً لهم، وفيه دليلٌ على أن الوارثَ لو أعرض عن نصيبه لم يسقُطْ حقُّه.


{وَإِذَا حَضَرَ القسمة} أي قسمةَ التركةِ، وإنما قُدّمت مع كونها مفعولاً لأنها المبحوثُ عنها ولأن في الفاعل تعدداً فلو رُوعي الترتيبُ يفوتُ تجاوبُ أطرافِ الكلام {أُوْلُواْ القربى} ممن لا يرث {واليتامى والمساكين} من الأجانب {فارزقوهم مّنْهُ} أي أعطوهم شيئاً من المال المقسومِ المدلولِ عليه بالقسمة، وقيل: الضميرُ لما وهو أمرُ ندبٍ كُلف به البالغون من الورثة تطييباً لقلوب الطوائفِ المذكورةِ وتصدقاً عليهم، وقيل: أمرُ وجوبٍ ثم اختلف في نَسْخه {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} وهو أن يدعوا لهم ويستقِلّوا ما أعطَوْهم ويعتذروا من ذلك ولا يُمنّوا عليهم {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضعافا خَافُواْ عَلَيْهِمْ} أمرٌ للأوصياء بأن يخشَوا الله تعالى ويتقوه في أمر اليتامى فيفعلوا بهم ما يُحبون أن يُفعلَ بذراريهم الضعافِ بعد وفاتِهم، أو لمن حضر المريضَ من العُواد عند الإيصاء بأن يخشَوا ربَّهم أو يخشوا أولادَ المريضِ ويُشفقوا عليهم شفقتَهم على أولادهم فلا يتركوه أن يُضِرَّ بهم بصرف المالِ عنهم، أو للورثة بالشفقة على من حضَر القسمةَ من ضعفاء الأقاربِ واليتامى والمساكينِ متصوّرين أنهم لو كانوا أولادَهم بقُوا خلفهم ضِعافاً مثلَهم هل يجوّزون حِرمانَهم؟ أو للموصين بأن ينظُروا للورثة فلا يُسرِفوا في الوصية.
و {لَوْ} بما في حيزها صلةٌ للذين على معنى وليخشَ الذين حالُهم وصفتُهم أنهم لو شارفوا أن يخلّفوا ورثةً ضِعافاً خافوا عليهم الضياعَ، وفي ترتيب الأمرِ عليه إشارةٌ إلى المقصود منه، والعلةِ فيه وبعثٌ على التراحم وأن يُحب لأولاد غيرِه ما يحب لأولاد نفسِه، وتهديدٌ للمخالف بحال أولادِه، وقرئ {ضعفاءَ} و{ضعافي} و{ضعافى} {فَلْيَتَّقُواّ الله} في ذلك، والفاءُ لترتيب ما بعدَها على ما قبلَها {وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} أمرهم بالتقوى التي هي غايةُ الخشيةِ بعد ما أمرهم بها مراعاةً للمبدأ والمنتهى إذ لا نفعَ للأول بدون الثاني،. ثم أمرهم بأن يقولوا لليتامى مثلَ ما يقولون لأولادهم بالشفقة وحُسنِ الأدبِ، أو للمريض ما يصُده عن الإسراف في الوصية وتضييعِ الورثةِ يذكّره التوبةَ وكلمةَ الشهادةِ أو لحاضري القسمةِ عذراً ووعداً حسناً أو يقولوا في الوصية ما لا يؤدّي إلى تجاوز الثلث.


وقوله تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} أي على وجه الظلمِ أو ظالمين، استئنافٌ جيء به لتقرير مضمونِ ما فُصِّل من الأوامر والنواهي {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ} أي ملءَ بطونِهم {نَارًا} أي ما يُجرُّ إلى النار ويؤدِّي إليها، وعن أبي برزة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يبعث الله تعالى قوماً من قبورهم تتأجّج أفواهُهم ناراً فقيل: من هم؟ فقال عليه السلام: ألم تر أن الله يقول: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}» أي سيدخُلون ناراً هائلةً مبْهمةَ الوصفِ وقرئ بضم الياء مخففاً ومشدداً من الإصلاء والتصلية، يقال: صِليَ النار قاسي حرَّها وصلَيتُه وشويتُه وأصليتُه وصلّيتُه ألقيته فيها. والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعَرتُ النارَ إذا ألهبتُها. روي أن آكلَ مالِ اليتيم يبعث يوم القيامةِ والدخانُ يخرج من قبره ومِنْ فيه وأنفِه وأُذنيه وعينيه فيعرف الناسُ أنه كان يأكلُ مالَ اليتيمِ في الدنيا. وروي أنه لما نزلت هذه الآيةُ ثقُل ذلك على الناس فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية فصعب الأمرُ على اليتامى فنزل قوله تعالى: {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ} الأية.
{يُوصِيكُمُ الله} شروعٌ في تفصيل أحكامِ المواريثِ المُجملةِ في قوله تعالى: {لّلرّجَالِ نَصِيبٌ} الخ، وأقسامُ الورثةِ ثلاثةٌ: قسمٌ لا يسقُط بحال وهو الآباءُ والأولادُ والأزواج فهؤلاء قسمانِ والثالثُ الكلالة. أي يأمركم ويعهَدُ إليكم {فِى أولادكم} أولاد كلِّ واحدٍ منكم أي في شأن ميراثِهم. بُدىءَ بهم لأنهم أقربُ الورثةِ إلى الميتِ وأكثرُهم بقاءً بعد المورِّث {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الانثيين} جملةٌ مستأنفةٌ جيء بها لتبيين الوصيةِ وتفسيرِها، وقيل: محلُّها النصبُ بيوصيكم على أن المعنى يفرِض عليكم ويشرَع لكم هذا الحُكمَ، وهذا قريبٌ مما رآه الفراءُ فإنه يجري ما كان بمعنى القولِ من الأفعال مَجراه في حكاية الجملةِ بعدَه، ونظيرُه قولُه تعالى: {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ} الآية، وقولُه تعالى: {لِلذّكْرِ} لا بد له من ضمير عائدٍ إلى الأولاد محذوفٍ ثقةً بظهوره كما في قولهم: السمنُ مَنَوانِ بدرهم. أي للذكر منهم، وقيل: الألفُ واللامُ قائمٌ مقامَه، والأصلُ لذكرهم، ومِثلُ صفةٌ لموصوف محذوفٍ أي للذكر منهم حظُّ الأنثيين، والبَداءةُ ببيان حكمِ الذكرِ لإظهار مَزيّتِه على الأنثى، كما أنها المناطُ في تضعيف حظِّه، وإيثارُ اسمَي الذكرِ والأنثى على ما ذُكر أولاً من الرجال والنساءِ للتنصيص على استواء الكبارِ والصغارِ من الفريقين في الاستحقاق من غير دخلٍ للبلوغ والكِبَرِ في ذلك أصلاً كما هو زعمُ أهلِ الجاهليةِ حيث كانوا لا يورِّثون الأطفالَ كالنساء. {فَإِن كُنَّ} أي الأولادُ والتأنيثُ باعتبار الخبرِ وهو قوله تعالى: {نِسَاء} أي خُلَّصاً ليس معهن ذكرٌ {فَوْقَ اثنتين} خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ لنساءً أي نساءً زائداتٍ على اثنتين {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} أي المتوفى المدلولُ عليه بقرينة المقامِ {وَإِن كَانَتْ} أي المولودةُ {واحدة} أي امرأةً واحدةً ليس معها أخٌ ولا أختٌ.
وعدمُ التعرّضِ للموصوف لظهوره مما سبق {فَلَهَا النصف} مما ترك، وقرئ {واحدةٌ} على كان التامة.
واختلف في الثنتين فقال ابنُ عباس: حكمُهما حكمُ الواحدةِ لأنه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما، وقال الجمهورُ: حكمُهما حكمُ ما فوقهما لأنه تعالى لما بيّن أن حظَّ الذكرِ مثلُ حظِّ الأنثيين إذا كان معه أنثى وهو الثلثان اقتضى ذلك أن فرضَهما الثلثان، ثم لما أوهم ذلك أن يُزاد النصيبُ بزيادة العددِ رُدَّ ذلك بقوله تعالى: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين} ويؤيد ذلك أن البنتَ الواحدةَ لما استحقَّت الثُلُثَ مع أخيها الأقوى منها في الاستحقاق فلأَنْ تستحِقَّه مع مثلها أولى وأحرى وأن البنتين أمسُّ رَحِماً من الأختين وقد فرض الله لهما الثلثين حيث قال تعالى: {فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ}.
{وَلأَبَوَيْهِ} أي لأبوي الميت. غُيِّر النظمُ الكريمُ لعدم اختصاصِ حُكمِه بما قبله من الصور {لِكُلّ واحد مّنْهُمَا} بدلٌ منه بتكرير العاملِ، وُسِّط بين المبتدأ الذي هو قوله تعالى: {السدس} وبين خبرِه الذي هو لأبويه، ونُقل الخبريةُ إليه تنصيصاً على استحقاق كلَ منهما السدسَ وتأكيداً له بالتفصيل بعد الإجمالِ وقرئ {السدْسُ} بسكون الدال تخفيفاً، وكذلك الثلْثُ والربْعُ والثمْنُ {مّمَّا تَرَكَ} متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من السدس، والعاملُ الاستقرارُ المعتبرُ في الخبر أي كائناً مما ترك المتوفى {إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ} أو ولدُ ابنٍ ذكراً كان أو أنثى واحداً أو متعدداً غير أن الأبَ في صورة الأنوثةِ بعد ما أخذ فرضَه المذكورَ يأخذ ما بقيَ من ذوي الفروضِ بالعصوبة {فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ} ولا ولدُ ابنٍ {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} فحسْبُ {فَلاِمّهِ الثلث} مما ترك والباقي للأب، وإنما لم يُذكَرْ لعدم الحاجةِ إليه لأنه لما فُرض انحصارُ الوارثِ في أبويه، وعُيِّن نصيبُ الأم عُلمَ أن الباقيَ للأب، وتخصيصُ جانبِ الأمِّ بالذِكر وإحالةُ جانبِ الأبِ على دَلالة الحالِ مع حصولِ البيانِ بالعكس أيضاً لما أنَّ حظَّها أخصَرُ واستحقاقَه أتمُّ وأوفرُ، أو لأن استحقاقَه بطريق العصوبةِ دون الفرضِ هذا إذا لم يكن معهما أحدُ الزوجين أما إذا كان معهما ذلك فللأم ثلثُ ما بقيَ بعد فرضِ أحدِهما لا ثلثُ الكلِّ كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما فإنه يُفضي إلى تفضيل الأمِّ على الأب مع كونه أقوى منها في الإرث بدليل إضعافِه عليها عند انفرادِهما عن أحد الزوجين وكونِه صاحبَ فرضٍ وعصبةٍ وذلك خلافُ وضعِ الشرع.
{فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} أي عددٌ ممن له أخوةٌ من غير اعتبارِ التثليثِ سواءٌ كانت من جهة الأبوين أو من جهة أحدِهما وسواءٌ كانوا ذكوراً أو إناثاً أو مختلِطين وسواءٌ كان لهم ميراثٌ أو كانوا محجوبين بالأب {فَلاِمِهِ السدس} أما السدسُ الذي حجبوها عنه فهو للأب عند وجودِه ولهم عند عدمِه وعليه الجمهورُ، وعند ابنِ عباس رضي الله عنهما أنه لهم على كلِّ حالٍ خلا أن هذا الحجبَ عنده لا يتحقق بما دون الثلاثِ وبالأخوات الخُلَّص، وقرئ {فلإِمِّه} بكسر الهمزةِ إتْباعاً لما قبلها {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ} خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ، والجملةُ متعلقةٌ بما تقدم جميعاً لا بما يليها وحدَه، أي هذه الأنصباءُ للورثة من بعد إخراجِ وصيةٍ {يُوصِى بِهَا} أي الميتُ وقرئ مبنياً للمفعول مخففاً ومبنياً للفاعل مشدداً يوصّي، وفائدةُ الوصفِ الترغيبُ في الوصية والندبُ إليها {أَوْ دَيْنٍ} عطفٌ على وصيةٍ إلا أنه غيرُ مقيدٍ بما قُيدتْ به من الوصف بل هو مُطلقٌ يتناول ما ثبت بالبينة أو الإقرارِ في الصحةِ، وإيثارُ {أَوْ} المفيدةِ للإباحة على الواو للدِلالة على تساويهما في الوجوب وتقدُّمِهما على القِسْمة مجموعَيْن أو منفردَيْن، وتقديمُ الوصيةِ على الديْن ذكراً مع تأخّرها عنه حُكماً لإظهار كمالِ العنايةِ بتنفيذها لكونها مظِنةً للتفريط في أدائها ولاطّرادها بخلاف الدَّين {آباؤكم وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} الخطابُ للورثة فآباؤكم مبتدأ وأبناؤكم عطفٌ عليه ولا تدرون خبرُه وأيُّهم مبتدأٌ وأقربُ خبرُه، ونفعاً نُصب على التمييز منه، وهو منقول من الفاعلية كأنه قيل: أيُّهم أقربُ لكم نفعُه؟ والجملةُ في حيز النصبِ بلا تدرون، والجملةُ الكبيرةُ اعتراضيةٌ مؤكِّدةٌ لوجوب تنفيذِ الوصيةِ أي أصولُكم وفروعُكم الذين يُتَوَفَّون لا تدرون أيُّهم أنفعُ لكم أمَنْ يوصي ببعض مالِه فيُعرِّضَكم لثواب الآخرةِ بتنفيذ وصيتِه أم مَنْ لا يوصي بشيء فيوفرَ عليكم عَرَضَ الدنيا؟ وليس المرادُ بنفي الدرايةِ عنهم بيانَ اشتباهِ الأمرِ عليهم وكونَ أنفعيةِ كلَ من الأول والثاني في حيز الاحتمال عندهم من غير رجحانِ أحدِهما على الآخر كما في قوله عليه الصلاة والسلام:
«مثلُ أمتي مثلُ المطرِ لا يدرى أولُه خيرٌ أمْ آخرُه» فإن ذلك بمعزل من إفادة التأكيدِ المذكورِ والترغيبِ في تنفيذ الوصيةِ بل تحقيقَ أنفعيةِ الأولِ في ضمن التعريضِ بأن لهم اعتقاداً بأنفعية الثاني مبنياً على عدم الدراية، وقد أشير إلى ذلك حيث عبّر عن الأنفعية بأقربيّة النفعِ تذكيراً لمناط زعمِهم وتعييناً لمنشأ خطئِهم ومبالغةً في الترغيب المذكورِ بتصوير الثوابِ الآجلِ بصورة العاجلِ لأن الطباعَ مجبولةٌ على حب الخيرِ الحاضرِ كأنه قيل: لا تدرون أيُّهم أنفعُ لكم فتحكُمون نظراً إلى ظاهر الحالِ وقربِ المنالِ بأنفعية الثاني مع أن الأمرَ بخلافه، فإن ثوابَ الآخرةِ لتحقق وصولِه إلى صاحبه ودوامِ تمتّعِه به مع غاية قصْرِ مدةِ ما بينهما من الحياة الدنيا أقربُ وأحضرُ، وعرَضُ الدنيا لسرعة نفادِه وفنائِه أبعدُ وأقصى. وقيل: الخطابُ للمورِّثين، والمعنى لا تعلمون من أنفعُ لكم ممن يرِثُكم من أصولكم وفروعِكم عاجلاً وآجلاً فتحَرَّوا في شأنهم ما أوصاكم الله تعالى به ولا تعمِدوا إلى تفضيلِ بعضٍ وحرمانِ بعض.
روي أن أحدَ المتوالدين إذا كان أرفعَ درجةً من الآخر في الجنة سأل الله تعالى أن يرفعَ إليه صاحبَه فيُرفعُ إليه بشفاعته. قيل: فالجملةُ الاعتراضيةُ حينئذ مؤكدةٌ لأمر القِسْمةِ وأنت خبيرٌ بأنه مُشعرٌ بأن مدارَ الإرثِ ما ذُكر من أقربية النفعِ أنه العلاقةُ النسبية {فَرِيضَةً مّنَ الله} نُصِبت نصْبَ مصدرٍ مؤكدٍ لفعل محذوفٍ أي فرض الله ذلك فرضاً أو لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ الله} فإنه في معنى يأمركم ويفرِض عليكم {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} أي بالمصالح والرُّتَب {حَكِيماً} في كل ما قضى وقدر فيدخُل فيه الأحكامُ المذكورةُ دخولاً أولياً.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8